مستويات الإنزياح - التركيبي والإستبدالي

 

مستويات الإنزياح - التركيبي والإستبدالي


مستويات الإنزياح - التركيبي والإستبدالي


مستويات الإنزياح

الإنزياح هو التمرد عن معيار ما في قانون اللغة كما يتجلى في عدة مستويات، ونحن كدارسين لهذه الظاهرة يتوجب علينا تحديد المستويات التي من الممكن أن تتواجد فيها الإنزياحات ،لأنها لا تقتصر على جزء من النص بل أجزاء كثيفة و متعددة ،فمثلا ينظر السكاكي على أنها تنقسم إلى مستويين :" يعتبر المستوى الأول بأنه المستوى اللغوي الذي يرد فيه الصياغة حسب مقتضيات الإيصال فحسب ، أما المستوى الثاني فهو الذي عبر عنه بالوظيفية البيانية "[1]،و كذلك عند جان كوهن يتم تحديده من خلال "تحول في الدلالية ،أي الإنتقال من المعنى التقريري العقلي إلى المعنى الإيحائي الإنفعالي ،و انه لا يتم ظهور المعنى الثاني إلا بإختفاء الأول، و يظهر ذلك جليا في مختلف مظاهر الإنزياح كالنظم والإسناد و التقديم و التأخير و غيرها[2].

كما يقول الجرجاني بهذا الصدد :"ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضه ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض"[3] و في هذه الناحية نجد جاكبسون يعرفه بـ :" تركيب عمليتين متواليتين في الزمن و متطابقتين في الوظيفة و هما إختيار المتكلم لأدواته من الرصيد المعجمي للغة ثم تركيبه لها تركيبا تقتضي بعضه قوانين النحو و تسمح ببعضه الأخر سبل التصرف في الإستعمال "[4].

بناءا على ما ذكر سابقا هناك مستويين للإنزياح ، إنزياح على مستوى محور الاستبدال ويتعلق بالمادة اللغوية للنص الأدبي ، و أما المستوى الثاني فيمثل المحور التركيبي و ما يشمله من السياقات الداخلية،و لكل مستوى من هذه المستويات مؤلف من مجموعة القواعد النمطية ،فكل خرق لوحدة من الوحدات المكون للمستوى من المستويات يعد إنزياحا ،لذا  سيكون في كل مستوى مجموعة من الإنزياحات.

1/ الإنزياح التركيبي :

تخضع الجملة في الخطابات المكتوبة أو المنطوقة لقوانين الطبيعة الخطية للغة التي تأتي وفقها القواعد و تعتمد الإجراء التأليفي  بين العناصر المتتالية، هذا الترتيب اللفظي يطلق عليه محور التركيب ، و هذا ما نجد عبد القاهر الجرجاني يتحدث عنه في كتابه دلائل الإعجاز قائلا:" ليس النظم إلا إن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه و أصوله ،و تعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها ، و تحفظ الرسوم التي رسمت لك ، فلا تخل بشيء منها[5]،و تخصيص الجرجاني لهذه المسألة بمثل هيكلة جملة و بناءها ، فهناك عمليتان : اختيار الكلم المناسب و وضعه و تركيبه في المكان المناسب أيضا .

      الإنزياح التركيبي و الذي يمثل نوع من أنواع الإنزياح السياقي الذي يحدث على مستوى الكلام بمفهوم السويسري [6] ،أي هي مجموعة من الكلمات ذات الترابط الوثيق التي تلقي الضوء على معنى و غاية الفقرة أو النص بأكمله .

فالإنزياحات التركيبية في الفن الأدبي أكبر تمثيلا في مظاهر التقديم و التأخير من خلال خرق القاعدة التركيبية للجملة الفعلية (فعل + فاعل + مفعول به + .....)أو الاسمية  (مبتدأ + خبر )، فقوانين الكلام تقتضي ترتيبا معينا للوحدات الكلامية ،فيما يقوم التقديم والتأخير في الشعر بخرق هذا الترتيب و إشاعة فوضى منظمة بين إرتباطات تلك الوحدة [7].

      كذلك ظاهرة الحذف التي تعتبر إسقاط الكلام جزء منه أو كله ، أي أحد عناصر التركيب اللغوي للجملة على إختلاف مواقعه تاركا فراغا بين العناصر التركيبية ، و ترك القارئ أو المتلقي مهمة تقديره أو الشعور به ، و منه فإن سرك الكاتب يبقى في كلمته وعبقرية الأسلوب فيما تضفيه من حيوية لتكون ذات معنى، فتبرر إمكانية المبدع في الصياغة و التعبير لذلك فهو يقع في دائرة الإنزياحات التركيبية.

        2/ الإنزياح الإستبدالي ( الدلالي ) :

المستوى الإستبدالي يعد من أكثر المستويات اللغوية مرونة ، وإذا تحدثنا عنه فنحن بالضرورة نتحدث عن الصور البيانية أي المجاز بصفة عامة وبصفة خاصة الاستعارة والكناية و غيرها .....، في حين كان الجاحظ يطلق كلمة " المجاز" على الصور البيانية[8]، ما يعني أي مغادرة للفظ عن معناه الظاهر إلى المعنى مرجوح بقرينة ، و منه فإن المجاز عند الجاحظ هو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له على سبيل التوسع من اهل اللغة ثقة من القائل في فهم السامع[9].

      يقر عبد القاهر الجرجاني على أن الاستعارة مجاز لغوي عقلي، و قد عرفه في كتابه " دلائل الإعجاز" قائلا : " فالاستعارة في هذه القضية و ذلك أن موضوعها على انك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ ، ولكنه يعرفه من معنى اللفظ "[10]، ومن خلال الاستعارة يقدم العسكري طبيعة البناء الأدبي بإعتباره لغة متميزة على اللغة الطبيعية ويقول فيها : " و أو لا أن الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقية من زيادة فائدة لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا "[11] ، و تكون هذه الزيادة بين عبارتين إما معناها الأولى أو المجرد واحد، و هي من محسنات الكلام إذا وقعت موقعها، ونزلت موضعها[12].

      إذا كان تركيزنا أكثر على الاستعارة فلا بد لنا أن نشير كذلك إلى الكناية تمثل أجمل صور الإنزياح و أبلغها لما تحمله من معاني، و قد أجمع الجميع على أن " الكناية " أبلغ من الإفصاح[13] ، و إنما أجرى هذا الإسم (الكناية) على هذا النوع من الكلام لأنه يستر معنى و يظهر غيره [14]، و ذلك لأنها كالدعوى على البينة، و على حسب قول الجرجاني "إن كل من الاستعارة و الكناية هو مجاز و إتساع و عدول باللفظ عن الظاهر[15].



[1] -محمد عبد المطلب،البلاغة الأسلوبية،ط1،دارنوبار،مصر،1994،ص.306.

[2] -محمد القاسمي،قضايا النقد المعاصر،ط1،داريافا العلمية للنشر و التوزيع،ص.56.

[3] -عبد القاهر الجرجاني،دلائل الإعجاز،تج:محمد و محمد شاكر،ط3،مكتبة الخانجي،مصر،1992،ص.04.

[4] - عبد السلام المسدي،الأسلوبية و الأسلوب،ط3،دارالعرب للكتابة،ص.96.

[5] -المرجع السابق،ص.81.

[6] -حسن ناظم،مفاهيم الشعرية،ط3،المركز الثقافي العربي،لبنان،1994،ص.121.

[7] -المرجع نفسه،ص:297.298.

[8] - أحمد عبد السيد الصاوي،مفهوم الاستعارة،منشأة معارف،مصر،1988،ص.36.

[9] - المرجع نفسه،ص.37.

[10] -عبد القاهر الجرجاني،دلائل الإعجاز،ص.431.

[11] -محمد العمري،البلاغة العربية أصولها و امتداداتها،إفريقيا الشرق،1999،ص:298.297.

[12] -إبن رشيق القيرواني،العمدة،ط5،ج1،دار الجيل،1981،ص.268.

[13] - عبد القاهر الجرجاني،دلائل الإعجاز،ص.70

[14] -لأبي المنصور الثعالبي،الكناية و التعريض،تح:عائشة حسين فريد،دارقباء للطباعة و النشر و التوزيع،1998،ص.21.

[15]-المرجع السابق،ص.430.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق